تحليلات

الدولة المدنية.. الطريق إلى دولة الإنسان لا إنسان الدولة

 

فاروق السامعي..

 

حتى لا تصبح الدولة نطاقاً جغرافياً ملغوماً بالعصبيات المتعددة وحقل ألغام شائك وأصابع ديناميت تعيش لحظة سلام قلقة بين كل حربين..

 

 

أجبرت الحياة المشتركة الأفراد على تقديم حزمة تنازلات عصبوية تضمن لهم التعايش الآمن وإنتاج نسيج مجتمعي سلمي يقبل بالآخر ويعترف به ويشاركه الحياة اليومية ولقمة العيش بعد أن أجبرتهم الظروف الاقتصادية على الشراكة وقبل أن تلزمهم القوانين المدنية بفعل ذلك.

 

 

وباعتبار المدنية هي تعايش السلوك والثقافات المتعددة في نطاق جغرافي واحد، يمكننا القول إنها سلوك إنساني مكتسب فرضته طبيعة الحياة المشتركة، لضمان سلمية التعايش، المتعدد ثقافياً واجتماعياً ودينياً وعرقياً، واقتضت نزوحات سكانية متعاقبة للمدينة الناشئة قوننة ذلك السلوك وأنسنته، وترك مساحات من الحرية له طالما لا يتصادم مع الآخر، ومنعت المجموعات الاجتماعية المختلفة من التحكم به أو مصادرته.. كون المواطنة هي الانتماء لشعبٍ وبلدٍ يقيمون فيه.. وطالما أن العلاقة بين الفرد والدولة تحددها قوانين تتضمن حقوقه وواجباته، فإن قوة الدولة ووجودها يتمثل بمعيار قوة ارتباطها بمواطنيها، وعلى الدولة مراعاة أن المواطن هو الوحدة الأساسية للوطن.

 

 

إن الدولة المدنية هي المؤسسة الجامعة لكل المواطنين، وتمثل محصلة أخيرة لمجموع إراداتهم، ويجب عليها ممارسة الحياد الايجابي تجاه القناعات الفكرية والمعتقدات الدينية والعصبوية والنوعية، ويتجسد الولاء الوطني في هيبة الدولة.. ويعتبر احترام القانون الحاضن الحقيقي للمواطن.

 

 

ويمكن تعريف الدولة المدنية بأنها توافق بيني مقبول بين كل مكونات المجتمع، وبهذا التوافق تصبح الدولة بمؤسساتها المختلفة القاسم المشترك والحاكم الوحيد بين هذه المكونات، وتستطيع به كبح جملة من العصبويات القبلية والعرقية والمذهبية والطائفية والدينية، ويجعلها قادرة على خلق روح التعايش والمشاركة وضمن حق الاختلاف وحرية الرأي والمعتقد، وتحافظ على الخصوصيات الفئوية والدينية وتحت سقف النظام والقانون، وتحفظ كرامة الإنسان ويسود بها مبدأ المواطنة المتساوية.

 

 

لذا أصبحت الدولة المدنية هي النموذج الراقي لدولة القانون والمواطنة المتساوية، دولة المؤسسات الدستورية المدنية، الناتجة عن عقد اجتماعي قائم بين الحكام والمحكومين، على أساس الحفاظ على الحريات الفردية والاجتماعية والسياسية، وبشرعية مستمدة من الدستور المدني، يتحول بموجبها أفراد السلطة والحكومات إلى مجرد موظفين، يمكن فصلهم أو الاستغناء عنهم بموجب شرعية العقد الدستوري المدني، إذا أخلّوا بوظائفهم ومهامهم أو خانوها.

 

 

وترتكز منظومة الدولة المدنية على حقائق أساسية تعمل على سد الثغرات المؤدية إلى إحباط المشروع المدني أو تعيق تحقيقه على واقع الدولة، ومن أبرز هذه الحقائق والضوابط الملزمة لمشروع دولة مدنية:

 

 

*منع تكريس إنتاج الأنظمة العسكرية أو عسكرة الأنظمة المدنية التي تحكمها ثقافة البزة وشهوة السيطرة والتسلط والقوة وعدم الالتزام بثوابت التداول السلمي للسلطة والحكم.

 

 

*كبح الأفكار المطالبة بقيام دولة دينية تحكمها المرجعيات ورجال الدين، -لا يعني ذلك إقصاء المتدينين من السلطة.

 

 

*عدم ربط أو مقاربة النظام ومؤسساته بعصبيات قبلية أو مناطقية على حساب عصبيات أخرى في المجتمع.. -لا يعني ذلك استثناء أبناء القبائل والمناطق من مناصب الدولة ومؤسساتها.

 

 

مبادئ الدولة المدنية

 

الضوابط وحدها ليست كفيلة بإنتاج دولة مدنية ما لم تراع حزمة من المبادئ والقيم المدنية أهمها:

 

– أن يكون الشعب مالك السلطة ومصدرها الوحيد.

 

– الكفالة الكاملة للحقوق والحريات المدنية كتأكيد على الحق الطبيعي للإنسان.

 

– الفصل الكامل بين السلطات الثلاث.

 

– العدالة الاجتماعية.

 

– سلطة القانون الكاملة على السلطة والمؤسسات والهيئات والأفراد.

 

– اعتماد مبدأ التغيير التداول السلمي للسلطة والتدوير الوظيفي.

 

– تحييد المؤسسات العامة والمدنية والدينية والوظيفة العامة والمال العام والاقنية الإعلامية الرسمية في الانتخابات وفي الصراعات السياسية على السلطة.

 

 – تشكيل حكومة تكنوقراط لإدارة السلطة التنفيذية وشغل الوظائف العليا للدولة.

 

 

ضمانات الدولة المدنية

 

حتى لا يجهض مشروع الدولة المدنية لابد من حمايته بحزمة ضمانات تشريعية وهيكلية وتنفيذية، من أهمها:

 

–  الفصل بين السلطات وضمان استقلاليتها والتحديد الدقيق لوظائفها ومراعاة عدم ازدواجيتها.

 

– وجود جهاز قضائي مستقل يتمتع بالضمانات اللازمة لأداء عمله وله الحق في مخاطبة السلطات والهيئات العامة ومناقشة تصرفاتها، ويملك الحق في إلغاء وتعديل الإجراءات التي تتخذها بالمخالفة للقانون.

 

– تطبيق النظام الديمقراطي بما يضمن ترجمة ملكية الشعب للسلطة واعتباره المصدر الوحيد لها.

 

 – إقرار مبدأ التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وترسيخ قيمها.

 

 – منح كل الصلاحيات للسلطات المحلية وغير المركزية، والتخلي عن الاستبداد المركزي الصارم.

 

 – حماية الحريات والحقوق المدنية والسياسية للأفراد والأقليات والجماعات المتعددة في المجتمع وضمان عدم طغيان الأغلبية.

 

 – تحقيق مبادئ المواطنة المتساوية لكل مواطن مهما كان فكره أو معتقده أو عرقه، والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص وتوفير الحياة الكريمة.

 

 – توسيع مشاركة منظمات المجتمع المدني وزيادة مساهمتها في الحياة المدنية والسياسية.

 

 

احترام الخصوصيات

 

ربما يعتقد البعض استحالة تحقيق دولة مدنية أو بلورة مشروع دستوري خاصة في ظل وجود العصبيات، لكنني أعتقد أن وجود مشروع مدني لا يعني إلغاء أو إقصاء القوى الأخرى التي ستحافظ على بقائها وسلطتها داخل مؤسساتها الخاصة دون أن تفرض ذلك على القوى الأخرى، أي ضمن الشأن الخاص بها، بينما الدولة مشروع عام هدفه الإنسان مهما تعدد واختلف.

 

 

مقومات الدولة المدنية

 

قبل الانتقال الفعلي للدولة المدنية لابد من تهيئة أرضية ومناخ دستوري ملزم يكون بمثابة الحاكم الفعلي للدولة، في ظل سيادة القانون وخضوع الحكام والمحكومين له.

 

1-وجود دستور مدني يمثل عقدا اجتماعيا بين الحكومة وشرائح المجتمع وأفراده، وبموجبه تستمد الدولة شرعيتها ووجودها الحقيقي والقانوني والتمثيل السيادي للشعب، وعلى ضوئه تضبط سياسات الحكومة.. ويعتبر الدستور الأرضية الأساسية لوجود قوانين ومؤسسات الدولة المدنية.

 

2-اعتماد هيكل قانوني وتشريعي متدرج من أعلى إلى أدنى يساعد في فرض سيادة دولة القانون.

 

3-سيادة حكم القانون وخضوع السلطات والمؤسسات والأفراد له، وتبطل شرعية الدولة المدنية بدون هذه السيادة.

 

4-الاعتراف بالحقوق وكفالة الحريات الفردية وحماية الفرد من تعسف السلطات.

 

5-أن تكون مبادئ القانون الإنساني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية والمعاهدات من المصادر الرئيسة لكل التشريعات.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى